يضيق صدري حينما أسمع القران الكريم
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لماذا أضيق صدرًا حين أسمع القُرْآن؟! ولا أستطيع أن آكُلَ وأنا أسمعُه، ولا أتنفَّس حين أستلقي على ظهري! إذْ يجب أن أجلس جلوسًا كاملاً حتَّى أتنفَّس، وأتوتَّرُ وأخاف كثيرًا، خاصة في مدرستي، هل أنا بحاجةٍ إلى الرُّقْية؟ أم إلى الطبيب النَّفسي؟
الجواب
بِسْمِ اللهِ الهادي للحق
وهو المُستعان
أيُّها الأخ الفَاضل:
أَرى بدايةً أنْ تَعرِض نفسَكَ على استشاريٍّ مُخْتَصٍّ في الأمراض الصَّدريَّة، وكذلك طَبِيب أَنْفٍ وأُذُنٍ وحنْجرَة؛ فلعلَّ مُشكلتكَ مع التَّنفُّسِ عُضويَّة، ثم ارْقِ نفسكَ بنفسِكَ، سواء أخبركَ الطَّبيبُ بأنَّكَ تعاني من مُشكلةٍ صدريَّة، أو أخبركَ بسلامتكَ - إن شاء الله تعالى، وسأتكلَّم قليلاً عن الرُّقْية بعد الإجابةِ عن سؤالكَ الكريم: لماذا أضيق صدرًا حين أسمع القُرْآن؟!
لهذا النَّوع من الضيق أسبابٌ ذكَرَها العُلماءُ، مَدارُها البُعد عن اللهِ - سُبحانه وتعالى - لأنَّ الأصلَ أنْ تطيبَ النَّفس بسماعِ القُرْآن المَجيدِ، وتُشفى مِن كلِّ داءٍ، وسأَذْكر من كلام الشَّيخيْن: ابن تيميَّة الحرَّاني، وابن قيِّم الجوزيَّة - رحمهما الله رحمةً واسعة - بعضَ ما بلغَه فَهْمي عنهما، وبالله التَّوفيق:
أوَّلاً: الاستِثْقالُ بالقُرْآن عَلامةٌ من عَلاَمات أَوْلياء الشَّيْطان، كما يذكرُ شيْخُ الإِسْلام في كتابه: "أَوْلياء الرَّحْمنِ وأَوْلياء الشَيْطان"، فبَعد أنْ عدَّد جُملةً من العَلاَمات، قال: "أو يكره سَماع القُرْآن وينفر عنه، ويُقدِّم عليه سَماع الأَغانِي والأَشْعارِ، ويُؤثِر سماعَ مَزامِيرِ الشَّيْطان على سَماع كَلامِ الرَّحْمنِ؛ فهذه عَلاَمات أَوْلياءِ الشَّيْطان، لا عَلاَمات أَوْلياءِ الرَّحْمنِ، قال ابن مَسْعُود - رضي الله عنه -: "لا يَسألْ أحدُكم عن نفسِه إلاَّ القُرْآنَ، فإن كانَ يُحبُّ القُرْآنَ فهو يُحبُّ اللهَ، وإن كانَ يُبغِضُ القُرْآن فهو يُبغِضُ اللهَ ورسولَهُ"، وقال عُثْمانُ بن عَفَّان - رضي الله عنه -: (لو طهُرتْ قُلوبُنا لمَا شبِعَتْ من كلامِ اللهِ - عزَّ وجلَّ)".
ثانيًا: الانتفاعُ بغير الأعْمَالِ المَشْروعة، قال شيْخُ الإِسْلام في كتابه "اقتضاء الصِّراطِ المُستقيم": "فالعبدُ إذا أخذَ مِن غيرِ الأعْمَالِ المَشْروعةِ بعضَ حاجتِه، قلَّتْ رغبتُه في المَشْرُوعِ وانتفاعِه به، بقدْرِ ما اعتاضَ من غيْرِه، بخلافِ مَن صرَفَ نهْمتَهُ وهِمَّتَهُ إلى المَشْرُوع، فإنَّه تعظمُ محبَّته لهُ ومَنْفعته به ويتمُّ دينُه، ويكملُ إسلامُهُ، ولذا تَجِد مَن أكثرَ مِن سَماعِ القَصائدِ لطلبِ صَلاحِ قلبِهِ، تنقُصُ رغبتُه في سَماعِ القُرْآن، حتَّى ربَّما كرِهَهُ! ومَن أكثرَ مِن السَّفَر إلى زياراتِ المَشاهِدِ ونَحْوها، لا يبقى لحجِّ البيْتِ الحَرام في قلبِه مِن المَحبة والتَّعظيمِ ما يكونُ في قَلْبِ مَن وسِعَتْهُ السُّنَّة، ومَن أَدْمَنَ على أَخْذِ الحِكْمَة والآدابِ مِن كلامِ حُكماء فَارِس والرُّومِ، لا يبقى لحِكْمَةِ الإِسْلام وآدابِه في قلبِه ذاكَ المَوْقِع، ومن أَدْمَنَ قَصَص المُلُوكِ وسِيَرهم لا يبقى لقِصَص الأَنْبِياء وسِيَرهم في قلبِه ذاك الاِهْتِمام، ونظيرُ هذا كثِير".
ثالثًا: عدَم طَهارة القَلْب، قال ابنُ قيِّم الجَوْزيَّة في "إغاثة اللَّهْفان" في تأويلِ قَوْل اللهِ تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ﴾ [المائدة: 41]: "كما أنَّ المُنحرِفين مِن أهْلِ الإرادةِ لَمَّا لَمْ تطْهُر قلوبُهم، تعوَّضُوا بالسَّماعِ الشَّيْطاني عن السَّماعِ القُرْآني الإيماني، قال عُثْمانُ بن عَفَّان - رضي الله عنه -: "لو طهُرتْ قُلوبُنا لمَا شبِعَتْ من كلامِ اللهِ"، فالقَلْب الطَّاهر لكمالِ حياتِه ونُورِه وتخلُّصِه من الأَدْران والخَبائِثِ، لا يشبعُ من القُرْآن، ولا يتغذَّى إلا بحَقائِقه، ولا يتدَاوى إلا بأَدْويته، بخِلافِ القَلْب الذي لم يُطهِّره اللهُ - تعالى، فإنَّه يتغذَّى من الأَغْذِية التي تُناسبُه، بحسب ما فيه من النَّجاسَة؛ فإنَّ القَلْب النَّجِس كالبَدَن العَلِيل المَريِض، لا تُلائِمه الأَغْذِيَةُ التي تُلائِم الصَّحِيح، ودلَّت الآيةُ على أنَّ طَهارَةَ القَلْب مَوْقوفة على إرادةِ اللهِ - تعالى، وأنَّه سُبحانه لَمَّا لَم يُرِد أنْ يُطهِّر قلوبَ القَائلين بالباطِل، المُحرِّفين للحقِّ، لم يحصُل لها الطَّهارَة".
رابعًا: فراغُ القَلْب من مَحبةِ الله - عزَّ وجلَّ - قال ابنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: "اطلُبْ قلبَكَ في ثلاثةِ مَوَاطِنِ: عندَ سَمِاع القُرْآن, وفي مَجالِس الذِّكْرِ, وفي أوْقاتِ الخَلْوة، فإنْ لَم تَجِدْه في هذه المَوَاطِنِ، فسَلِ اللهَ أنْ يمُنَّ عليكَ بقَلْبٍ؛ فإنَّه لا قَلْب لكَ"! وقال ابنُ قيِّم الجوزيَّة في "الجَواب الكَافي": "فإذا رأيتَ الرَّجُلَ ذَوْقه وشِدَّة وَجْدِه وطَرَبه وتشوقه إلى سماع الأبياتِ دونَ سماعِ الآياتِ، وسماع الألحَانِ دونَ سماعِ القُرْآن، وهو كمَا قِيل: تُقرَأ علَيْك الخَتْمَة وأَنتَ جامِد كالحَجَر، وبَيْتٌ مِن الشِّعْر يُنْشَد تَمِيلُ كَالسَّكْران!
فهذا من أَقْوى الأَدِلَّة على فَراغِ قلبِه من مَحبَّةِ اللهِ وكلامِه، وتعلُّقِه بمَحبّة سمَاعِ الشَّيْطان، والمَغْرورُ يعتقدُ أنَّه على شَيْء".
خامسًا: الغِناء، قال ابنُ مَسْعُود - رضي الله عنه -: "الغِناء يُنْبِتُ النِّفاقَ في القَلْب كما يُنْبِتُ الماءُ البَقْلَ"، قال ابنُ القيِّم مُعلِّقًا في كتابه "مَدَارج السالِكين": "وهذا كلامُ عارفٍ بأثَر الغِناء وثَمرتِه؛ فإنَّه ما اعتادَه أحدٌ إلاَّ نافقَ قلبُه وهو لا يشْعُر، ولو عرَف حقيقة النِّفاقِ وغايته، لأبصرَهُ في قلْبِه؛ فإنَّه ما اجتمعَ في قَلْب عبدٍ قطُّ مَحبّةُ الغِناء ومَحبّةُ القُرْآن إلاَّ طردَتْ إحداهُما الأُخرى، وقدْ شاهدْنَا نحنُ وغيرُنا ثِقلَ القُرْآن على أَهْل الغِناء وسماعه، وتبَرُّمَهم بهِ، وصياحَهم بالقَارئِ إذا طوَّل عَليْهم، وعدَم انْتِفاعِ قُلُوبهم بما يَقْرؤه، فلا تتَحرَّك ولا تَطْرب، ولا تَهِيج منها بَواعِث الطَّلَب، فإذا جاءَ قُرْآنُ الشَّيْطان فلاَ إِلَه إِلاَّ الله، كيفَ تَخْشعُ منهم الأَصْواتُ، وتهدَأُ الحَرَكات، وتَسْكن القُلُوب وتَطْمئنُّ، ويقَع البُكاءُ والوَجْد، والحَركة الظَّاهِرة والبَاطِنة، والسَّماحة بالأثْمَان والثِّيابِ، وطيب السَّهَرِ، وتَمنِّي طُولِ اللَّيل؛ فإنْ لَم يكُن هذا نِفاقًا فهو آخيةُ النِّفاق وأسَاسه".
وقال في موضعٍ آخر: "وحرامٌ على قَلْبٍ قد تَربَّى على غِذاءِ السَّماعِ الشَيْطاني أن يجدَ شيئًا من ذلكَ في سمَاع القُرْآن، بل إنْ حصَل له نَوْع لذَّة، فهو من قِبَل الصَّوتِ المُشترك، لا من قِبَل المَعْنى الخَاصّ".
فانظر في قلبكَ وحُبِّك لربِّكَ كيف هو؟! وتقرَّب إليه بالطَّاعات والعِبَادات، وأكثِرْ من التَّوبة والاستغفارِ، وردِّد دائمًا: "اللهمَّ اجعلِ القُرْآن ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حُزْني، وذَهابَ هَمِّي وغمِّي".
قال صاحبُ "الظِّلال": "وعندما يُصبح القُرْآن ربيعَ القَلْب، ونورَ الصَّدْر، وجلاءَ الحُزْن، وذَهابَ الهَمِّ، فإنَّه بِمَنْزلة الدَّواء الذي يَستأصل الدَّاء، ويُعيد البَدَنَ إلى صِحَّته واعتداله، بعدَ مرَضه واعْتلاله".
أمَّا الرُّقْية فهي مُهِمَّة، وأهمُّ ما فيها أنْ نرقي أنْفُسَنا بأَنْفُسِنا، لا أنْ نلجأَ إلى راقٍ لا نعلمُ حقيقته؛ فعَنْ أمِّ المُؤمنين عَائِشَة - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانَ يَنْفُثُ على نَفْسِه فِي المرَض الَّذِي ماتَ فيه بِالمُعوِّذات، فلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفثُ عليهِ بِهنَّ، وأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِه لِبَركتِها"؛ مُتَّفَق عليه، وقد أخبر النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ذِكْر أَوْصافِ مَن يَدْخل الجنَّة في هذه الأُمَّة بغير حِسَاب بأنَّهم: ((وَلاَ يَسْتَرْقُونَ))؛ مُتَّفق عليه، والاسترقاء: طلَب الرُّقْية.
قال ابنُ قيِّم الجوزيَّة - رحمه الله تعالى - في كتابِه: "حَادِي الأَرْواح": "فإنْ قِيل: فعائِشَة قد رَقتْ رسُولَ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجبْرِيل قد رقَاهُ، قِيل: أجَل، وَلكنْ هُو لَمْ يَسْتَرْقِ، وهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يقُل: "ولا يَرْقِيهم راقٍ"، وإنَّما قالَ: لا يَطْلُبون مِن أحَدٍ أنْ يرْقِيهم".
صِفَة الرُّقْية الشَّرْعِيِّة:
تَجِدها بتفصيلِها في اسْتشارةِ: "رُقية النَّفْس وتجديد الهِمَّة للعمَل"، إجابة فضيلة الشَّيخ خَالِد بن عبدالمُنعِم الرِّفاعي - سدَّده الله - فعليكَ بالنَّظر فيها؛ فما تخلُو من فَائِدة - بإذنه تعالى.
أنصحكَ أيضًا باقتناء كتاب: "زَاد المَعاد في هَدْي خير العباد"؛ للشَّيْخ العَلامة ابن قيِّم الجوزيَّة - رضي الله عنه - والكتابُ مطبوعٌ على عدَّة أجزاء، وقد اختصرَه الشَّيْخُ المُجدِّد مُحمَّد بن عبدالوهَّاب - رحمه الله - وعندي نُسخة رَائعة من دَار الكِتاب العَربي، اشتريتُها من مكتبة جَرِير، ولا أدري إن كانت تُباع هذه النُّسخة في بلادكم أو لا، إلا أنَّي آمل أن تجدَها؛ لِصغَر حجم الكتابِ، وجَمْع أجزائه في مُجلَّدٍ واحد أَنيق، يسهل حَمْله في كلِّ مُكان، ما يجعل قِراءة هذا الزَّاد الرُّوحيّ أمرًا مُيسَّرًا ومُشجِّعًا للقِراءة، ويُحقق فيه عنوان الكتاب "زاد المعاد"، ويحوي الكتابُ عدَّة فُصولٍ في العِلاج النَّبوِي والرُّقْية الشَّرْعِيِّة، بدءًا من ص 667 إلى ص 849، وبالتَّأكيد سيسهُل عليكَ تحميل الكِتابِ بصيغة PDF، ولكن يبقى الكِتابُ الورقي مَلِكًا لا يُنازعه على حُكْمِه أحَد.
وثَمَّة كُتيِّب أذكارٍ صغيرٌ بحَجْمه، عَظِيم بنَفْعه، من إصدارات دار شِفاء للنَّشر، اسمه: "الحِصْن الواقي"، تأليف الشَّيخ د. عبدالله بن محمد السَّدحان، وأظنُّه قد نُشِر على الشَّبكة.
أما الخَوْفُ والتَّوتُّر في المَدْرَسَةِ، فعادةً ما يطلق عليه مصطلح "الخَوْف من المَدْرَسَةِ" عند بَحْثِنا في مُشكلات الأَطْفال، وأنتَ رَاشِد - إن شاء الله - فأَتَوقَّع أن يكونَ ما تُعاني منه هو الرهاب الاجتماعي، إلا أنَّي لا أَجزم بذلك؛ لأنَّكَ لَم تذكُر أية أَعْراض تُساعدني على التَّشخيص، فإذا كان باستطاعتكَ الذَّهاب إلى طَبِيبٍ نفسي، وتشرحُ له بتفصيلٍ ما اقتضبْتَه في هذه الاستشارة فأمرٌ جيِّد، اعْقلها وتَوكَّل.
لكَ أن تطَّلِع على الاسْتِشَارات المُتعلِّقة بالرهاب الاجتماعي على شبكة الأَلُوكة، عبر تتبُّع المسَار التَّالي: مَوْقع الاسْتِشَارات - اسْتِشَارات نَفْسيَّة - مُشكِلات نَفْسيَّة - الخَوْفُ والرُّهاب.
وسوف تَجِد - بإذن الله تعالى - زُمْرةً من الاستشاراتِ التي قد تُساعدكَ على تَحْديد نوْعِ مَخاوفكِ وبعض الحُلول المُقترَحة، وعسى الله أنَّ يمنَّ عليكَ بعافيته، رُزقتَ السَّلامة.
والله - سُبحانه وتعالى - أعلم بالصَّواب، وهو الهادِي لمن يشاء, والمُضِلُّ لمن أراد،
وله الحمدُ على السَّلامةِ والعَافِيَة.
المصدر
http://www.alukah.net/fatawa_counsels/0/38299/
Comments
Post a Comment